كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولو قدرنا إنسانا وحده مطلوبا من جهة أعدائه وهو ملقى في مضيعة لا تتحرك عليه أعضاؤه لضعفه وإن تحركت فلا سلاح معه وإن كان معه سلاح لم يقاوم أعداءه وحده وإن كان له جنود لم يأمن أن تنكسر جنوده ولا يجد حصنا يأوي إليه فجاء من عالج ضعفه فقواه وأمده بجنوده وأسلحته. وبنى حوله حصنا حصينا فقد أفاده أمنا وأمانا فالبحري أن يسمى مؤمنا في حقه.
والعبد ضعيف في أصل فطرته وهو عرضة الأمراض والجوع والعطش من باطنه وعرضة الآفات المحرقة والمغرقة والجارحة والكاسرة من ظاهره ولم يؤمنه من هذه المخاوف إلا الذي أعد الأدوية نافعة ورافعة لأمراضه والأطعمة مزيلة لجوعه والأشربة مميطة لعطشه والأعضاء دافعة عن بدنه والحواس جواسيس منذرة بما يقرب من مهلكاته ثم خوفه الأعظم من هلاك الآخرة ولا يحصنه عنه إلا كلمة التوحيد والله سبحانه وتعالى هاديه إليها ومرغبه فيها حيث قال لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمن عذابي فلا أمن في العالم إلا وهو مستفاد بأسباب هو متفرد بخلقها والهداية إلى استعمالها فهو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى فهو المؤمن المطلق حقا تنبيه حظ العبد من هذا الاسم والوصف أن يأمن الخلق كلهم جانبه بل يرجو كل خائف الاعتضاد به في دفع الهلاك عن نفسه في دينه ودنياه كما قال رسول الله من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليأمن جاره بوائقه وأحق العباد باسم المؤمن من كان سببا لأمن الخلق من عذاب الله بالهداية إلى طريق الله عز وجل والإرشاد إلى سبيل النجاة وهذه حرفة الأنبياء والعلماء.
ولذلك قال رسول الله «إنكم تتهافتون في النار تهافت الفراش وأنا آخذ بحجزكم».
خيال وتنبيه:
لعلك تقول الخوف على الحقيقة من الله تعالى فلا مخوف إلا إياه فهو الذي خوف عباده وهو الذي خلق أسباب الخوف فكيف ينسب إليه الأمن؟
فجوابك إن الخوف منه والأمن منه وهو خالق سبب الأمن والخوف جميعا وكونه مخوفا لا يمنع كونه مؤمنا كما أن كونه مذلا لم يمنع كونه معزا بل هو المعز والمذل وكونه خافضا لم يمنع كونه رافعا بل هو الخافض الرافع فكذلك هو المؤمن المخوف لكن المؤمن ورد التوقيف به خاصة دون المخوف.
المهيمن معناه في حق الله عز وجل أنه القائم على خلقه بأعمالهم وأرزاقهم وآجالهم وإنما قيامه عليهم باطلاعه واستيلائه وحفظه وكل مشرف على كنه الأمر مستول عليه حافظ له فهو مهيمن عليه والإشراف يرجع إلى العلم والاستيلاء إلى كمال القدرة والحفظ إلى الفعل فالجامع بين هذه المعاني اسمه المهين ولن يجتمع ذلك على الإطلاق والكمال إلا لله عز وجل ولذلك قيل إنه من أسماء الله تعالى في الكتب القديمة.
تنبيه:
كل عبد راقب قلبه حتى أشرف على أغواره وأسراره واستولى مع ذلك على تقويم أحواله وأوصافه وقام بحفظها على الدوام على مقتضى تقويمه فهو مهيمن بالإضافة إلى قلبه فإن اتسع إشرافه واستيلاؤه حتى قام بحفظ بعض عباد الله عز وجل على نهج السداد بعد اطلاعه على بواطنهم وأسرارهم بطريق التفرس والاستدلال بظواهرهم كان نصيبه من هذا المعنى أوفر وحظه أكثر العزيز هو الخطير الذي يقل وجود مثله وتشتد الحاجة إليه ويصعب الوصول إليه فما لم يجتمع عليه هذه المعاني الثلاثة لم يطلق عليه اسم العزيز فكم من شيء يقل وجوده ولكن إذا لم يعظم خطره ولم يكثر نفعه لم يسم عزيزا وكم من شئ يعظم خطره ويكثر نفعه ولا يوجد نظيره ولكن إذا لم يصعب الوصول إليه لم يسم عزيزا كالشمس مثلا فإنه لا نظير لها والأرض كذلك والنفع عظيم في كل واحد منهما والحاجة شديدة إليهما ولكن لا يوصفان بالعزة لأنه لا يصعب الوصول إلى مشاهدتهما فلابد من اجتماع المعاني الثلاثة.
ثم في كل واحد من المعاني الثلاثة كمال ونقصان والكمال في قلة الوجود أن يرجع إلى واحد إذ لا أقل من الواحد ويكون بحيث يستحيل وجود مثله وليس هذا إلا الله تعالى فإن الشمس وإن كانت واحدة في الوجود فليست واحدة في الإمكان فيمكن وجود مثلها في الكمال والنفاسة وشدة الحاجة أن يحتاج إليه كل شيء في كل شيء حتى في وجوده وبقائه وصفاته وليس ذلك على الكمال إلا لله عز وجل والكمال في صعوبة المنال أن يستحيل الوصول إليه على معنى الإحاطة بكنهه وليس ذلك على الكمال إلا لله عز وجل فإنا قد بينا أنه لا يعرف الله إلا الله فهو العزيز المطلق الحق لا يوازيه فيه غيره.
تنبيه:
العزيز من العباد من يحتاج إليه عباد الله في أهم أمورهم وهي الحياة الأخروية والسعادة الأبدية وذلك مما يقل لا محالة وجوده ويصعب إدراكه وهذه رتبة الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين ويشاركهم في العز من ينفرد بالقرب من درجتهم في عصره كالخلفاء وورثتهم من العلماء وعزة كل واحد منهم بقدر علو رتبته عن سهولة النيل والمشاركة وبقدر عنائه في إرشاد الخلق الجبار هو الذي ينفذ مشيئته على سبيل الإجبار في كل واحد ولا تنفذ فيه مشيئة أحد الذي لا يخرج أحد من قبضته وتقصر الأيدي دون حمى حضرته فالجبار المطلق هو الله سبحانه وتعالى فإنه يجبر كل أحد ولا يجبره أحد ولا مثنوية في حقه في الطرفين.
تنبيه:
الجبار من العباد من ارتفع عن الأتباع ونال درجة الاستتباع وتفرد بعلو رتبته بحيث يجبر الخلق بهيئته وصورته على الاقتداء به ومتابعته في سمته وسيرته فيفيد الخلق ولا يستفيد ويؤثر ولا يتأثر ويستتبع ولا يتبع ولا يشاهده أحد إلا ويفنى عن ملاحظة نفسه ويصير متشوقا إليه غير ملتفت إلى ذاته ولا يطمع أحد في استدراجه واستتباعه وإنما حظي بهذا الوصف سيد البشر حيث قال لو كان موسى بن عمران حيا ما وسعه إلا اتباعي وأنا سيد ولد آدم ولا فخر.
المتكبر هو الذي يرى الكل حقيرا بالإضافة إلى ذاته ولا يرى العظمة والكبرياء إلا لنفسه فينظر إلى غيره نظر الملوك إلى العبيد فإن كانت هذه الرؤية صادقة كان التكبر حقا وكان صاحبها متكبرا حقا ولا يتصور ذلك على الإطلاق إلا لله عز وجل وإن كان ذلك التكبر والاستعظام باطلا ولم يكن ما يراه من التفرد بالعظمة كما يراه كان التكبر باطلا ومذموما وكل من رأى العظمة والكبرياء لنفسه على الخصوص دون غيره كانت رؤيته كاذبة ونظره باطلا إلا الله سبحانه وتعالى تنبيه المتكبر من العباد هو الزاهد العارف ومعنى زهد العارف أن يتنزه عما شغل سره عن الحق ويتكبر على كل شيء سوى الحق سبحانه وتعالى فيكون مستحقرا للدنيا والآخرة جميعا مترفعا عن أن يشغله كلاهما عن الحق تعالى وزهد غير العارف معاملة ومعاوضة فإنه يشتري بمتاع الدنيا متاع الآخرة فيترك الشيء عاجلا طمعا في أضعافه آجلا وإنما هو سلم ومبايعة ومن استعبدته شهوة المطعم والمنكح فهو حقير وإن كان ذلك دائما وإنما المتكبر من يستحقر كل شهوة وحظ يتصور أن يساهمه البهائم فيها والله أعلم.
الخالق البارئ المصور قد يظن أن هذه الأسماء مترادفة وأن الكل يرجع إلى الخلق والاختراع ولا ينبغي أن يكون كذلك بل كل ما يخرج من العدم إلى الوجود فيفتقر إلى تقدير أولا وإلى الإيجاد على وفق التقدير ثانيا وإلى التصوير بعد الإيجاد ثالثا والله سبحانه وتعالى خالق من حيث أنه مقدر وبارئ من حيث أنه مخترع موجد ومصور من حيث أنه مرتب صور المخترعات أحسن ترتيب.
وهذا كالبناء مثلا فإنه يحتاج إلى مقدر يقدر ما لابد له منه من الخشب واللبن ومساحة الأرض وعدد الأبنية وطولها وعرضها وهذا يتولاه المهندس فيرسمه ويصوره ثم يحتاج إلى بناء يتولى الأعمال التي عندها يحدث أصول الأبنية ثم يحتاج إلى مزين ينقش ظاهره ويزين صورته فيتولاه غير البناء هذه هي العادة في التقدير والبناء والتصوير وليس كذلك في أفعال الله عز وجل بل هو المقدر والموجد والمزين فهو الخالق البارئ المصور.
ومثاله الإنسان وهو أحد مخلوقاته وهو محتاج في وجوده أولا إلى أن يقدر ما منه وجوده فإنه جسم مخصوص فلابد من الجسم أولا حتى يخصص بالصفات كما يحتاج البناء إلى آلات حتى يبني ثم لا يصلح لبنية الإنسان إلا الماء والتراب جميعا إذ التراب وحده يابس محض لا ينثني ولا ينعطف في الحركات والماء وحده رطب محض لا يتماسك ولا ينتصب بل ينبسط فلابد أن يمتزج الرطب باليابس حتى يعتدل ويعبر عنه بالطين ثم لابد من حرارة طابخة حتى يستحكم مزج الماء بالتراب ولا ينفصل فلا يتخلق الإنسان من الطين المحض بل من صلصال كالفخار والفخار هو الطين المعجون بالماء الذي قد عملت فيه النار حتى أحكمت مزاجه ثم يحتاج إلى تقدير الماء والطين بمقدار مخصوص فإنه إن صغر مثلا لم تحصل منه الأفعال الإنسانية بل كان على قدر الذر والنمل فتسفيه الرياح ويهلكه أدنى شيء ولا يحتاج إلى مثل الجبل من الطين فإن ذلك يزيد على قدر الحاجة بل الكافي من غير زيادة ونقصان قدر معلوم يعلمه الله عز وجل.
وكل ذلك يرجع إلى التقدير فهو باعتبار تقدير هذه الأمور خالق وباعتبار الإيجاد على وفق التقدير مصور وباعتبار مجرد الإيجاد والإخراج من العدم إلى الوجود بارئ والإيجاد المجرد شئ والإيجاد على وفق التقدير شيء آخر وهذا يحتاج إليه من يبعد رد الخلق إلى مجرد التقدير مع أن له في اللغة وجها إذ العرب تسمي الحذاء خالقا لتقديره بعض طاقات النعل على بعض ولذلك قال الشاعر:
ولأنت تفري ما خلقت وبعض ** القوم يخلق ثم لا يفري

فأما اسم المصور فهو له من حيث رتب صور الأشياء أحسن ترتيب وصورها أحسن تصوير وهذا من أوصاف الفعل فلا يعلم حقيقته إلا من يعلم صورة العالم على الجملة ثم على التفصيل فإن العالم كله في حكم شخص واحد مركب من أعضاء متعاونة على الغرض المطلوب منه وإنما أعضاؤه وأجزاؤه السموات والكواكب والأرضون وما بينهما من الماء والهواء وغيرهما وقد رتبت أجزاؤه ترتيبا محكما لو غير ذلك الترتيب لبطل النظام فخصص بجهة الفوق ما ينبغي أن يعلو وبجهة السفل ما ينبغي أن يسفل وكما أن البناء يضع الحجارة أسفل الحيطان والخشب فوقها لا بالاتفاق بل بالحكمة والقصد لإرادة الإحكام ولو قلب ذلك فوضع الحجارة فوق الحيطان والخشب أسفلها لانهدم البناء ولم تثبت صورته أصلا.
فكذلك ينبغي أن يفهم السبب في علو الكواكب وتسفل الأرض والماء وسائر أنواع الترتيب في الأجزاء العظام من أجزاء العالم ولو ذهبنا نصف أجزاء العالم ونحصيها ثم نذكر الحكمة في تركيبها لطال الكلام وكل من كان أوفر علما بهذا التفصيل كان أكثر إحاطة بمعنى اسم المصور وهذا الترتيب والتصوير موجود في كل جزء من أجزاء العالم وإن صغر حتى في النملة والذرة بل في كل عضو من أعضاء النملة بل الكلام يطول في شرح صورة العين التي هي أصغر عضو في الحيوان ومن لم يعرف طبقات العين وعددها وهيئاتها وشكلها ومقاديرها وألوانها ووجه الحكمة فيها فلن يعرف صورتها ولم يعرف مصورها إلا بالاسم المجمل وهكذا القول في كل صورة لكل حيوان ونبات بل لكل جزء من كل حيوان ونبات.
تنبيه:
حظ العبد من هذا الاسم أن يحصل في نفسه صورة الوجود كله على هيئته وترتيبه حتى يحيط بهيئة العالم وترتيبه كله كأنه ينظر إليها ثم ينزل من الكل إلى التفاصيل فيشرف على صورة الإنسان من حيث بدنه وأعضائه الجسمانية فيعلم أنواعها وعددها وتركيبها والحكمة في خلقها وترتيبها ثم يشرف على صفاتها المعنوية ومعانيها الشريفة التي بها إدراكاته وإرادته وكذلك يعرف صورة الحيوانات وصورة النبات ظاهرا وباطنا بقدر ما في وسعه حتى يحصل نقش الجميع وصورته في قلبه وكل ذلك يرجع إلى معرفة صورة الجسمانيات وهي معرفة مختصرة بالإضافة إلى معرفة ترتيب الروحانيات وفيه يدخل معرفة الملائكة ومعرفة مراتبهم وما وكل إلى كل واحد منهم من التصرف في السموات والكواكب ثم التصرف في القلوب البشرية بالهداية والإرشاد ثم التصرف في الحيوانات بالإلهامات الهادية لها إلى مظنة الحاجات.